كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية.. لقد هزها هزاً عنيفاً نفض عنها كل رواسب الجاهلية.. لقد أشعر المسلمين- الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة- أنهم يولدون من جديد؛ وينشأون من جديد. كما جعلهم يحسون إحساساً عميقاً بضخامة النقلة، وعظمة الوثبة، وجلال المرتقى، وجزالة النعمة.
فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركتة عليهم. وأن يحذروا عن مخالفته.. وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق، وثمرة تلك الهزة العنيفة.
لذلك راحوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعوا آيات التحريم:
{ماذا أحل لهم}.
ليكونوا على يقين من حلة قبل أن يقربوه.
وجاءهم الجواب {قل أحل لكم الطيبات...}..
وهو جواب يستحق التأمل.. إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة: إنهم لم يحرموا طيباً، ولم يمنعوا عن طيب؛ وإن كل الطيبات لهم حلال، فلم يحرم عليهم إلا الخبائث.. والواقع أن كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية. كالميتة والدم ولحم الخنزير. أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب، أو كان الاستقسام فيه بالأزلام. وهو نوع من الميسر.
ويضيف إلى الطيبات- وهي عامة- نوعاً منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم؛ وهو ما تمسكه الجوارح المعلمه المدربة على الصيد كالصقر والبازي، ومثلها كلاب الصيد، أو الفهود والأسود. مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة: أي يكبلها ويصطادها:
{وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب}..
وشرط الحل فيما تمسكه هذه الجوارح المكلبة المعلمة المدربة، أن تمسك على صاحبها: أي أن تحتفظ بما تمسكه من الصيد؛ فلا تأكل منه عند صيده؛ إلا إذا غاب عنها صاحبها، فجاعت. فإنها إن أكلت من الفريسة عند إمساكها لها، لا تكون معلمة؛ وتكون قد اصطادت لنفسها لا لصاحبها فلا يحل له صيدها. ولو تبقى منها معظم الصيد لم تأكله؛ ولو جاءت به حياً ولكنها كانت أكلت منه؛ فلا يذكى؛ ولو ذبح ما كان حلالاً..
والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة فقد علموها مما علمهم الله. فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح؛ وأقدرهم على تعليمها؛ وعلمهم هم كيف يعلمونها.. وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر، ولا مناسبة تعرض، حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى: حقيقية أن الله هو الذي أعطى كل شيء. هو الذي خلق، وهو الذي علم، وهو الذي سخر؛ وإليه يرجع الفضل كله، في كل حركة وكل كسب وكل إمكان، يصل إليه المخلوق.. فلا ينسى المؤمن لحظة، أن من الله، وإلى الله، كل شيء في كيانه هو نفسه؛ وفيما حوله من الأشياء والأحداث؛ ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه، وكل هزة عصب، وكل حركة جارحة.
ويكون بهذا كله ربانياً على الاعتبار الصحيح.
والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح. ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره؛ فيكون هذا كالذبح له؛ واسم الله يذكر عند الذبح، فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء.
ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله؛ ويخوفهم حسابه السريع.. فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن؛ والذي يحول الحياة كلها صلة بالله، وشعوراً بجلاله، ومراقبة له في السر والعلانية:
{واتقوا الله إن الله سريع الحساب}..
ويستطرد في بيان ما أحل لهم من الطعام ويلحق به ما أحل لهم من النكاح:
{اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان}..
وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله:
{اليوم أحل لكم الطيبات}..
فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه؛ ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع. فهي من الطيبات.
وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية؛ في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي في دار الإسلام، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد، من أهل الكتاب..
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية؛ ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين- أو منبوذين- إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة والخلطة. فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك. ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة.. وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم- وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر- طيبات للمسلمين، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات. وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل. فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية، أو البروتستانتية، أو المارونية المسيحية، ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة!
وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية؛ ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي. فيما يختص بالعشرة والسلوك (أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر سيجيء في سياق السورة).
وشرط حل المحصنات الكتابيات. هو شرط حل المحصنات المؤمنات:
{إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان}.
ذلك أن تؤدى المهور، بقصد النكاح الشرعي، الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها. لا أن يكون هذا المال طريقاً إلى السفاح أو المخادنة.
والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل؛ والمخادنة أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج.. وهذا وذلك كانا معروفين في الجاهلية العربية، ومعترفاً بهما من المجتمع الجاهلي. قبل أن يطهره الإسلام، ويزكيه، ويرفعه من السفح الهابط إلى القمة السامقة..
ويعقب على هذه الأحكام تعقيباً فيه تشديد، وفيه تهديد:
{ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}..
إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان؛ وتنفيذها كما هي هو الإيمان؛ أو هو دليل الإيمان. فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده. والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح رداً عليه لا يقبل منه، ولا يقر عليه.. والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساماً.. وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل. فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت.. وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا..
وهذا التعقيب الشديد، والتهديد المخيف، يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح.. فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج؛ وأن كل جزئية فيه هي الدين الذي لا هوادة في الخلاف عنه، ولا قبول لما يصدر مخالفاً له في الصغير أو في الكبير.
وفي ظل الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء يجيء ذكر الصلاة، وأحكام الطهارة للصلاة.
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}..
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام.. إن هذا لا يجيء اتفاقاً ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجيء كذلك بعيداً عن جو السياق وأهدافه.. إنما هو يجيء في موضعه من السياق، ولحكمته في نظم القرآن..
إنها- أولاً- لفتة إلى لون آخر من الطيبات.. طيبات الروح الخالصة.. إلى جانب طيبات الطعام والنساء.. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع. إنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء.. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالاً لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان.. والتي بها يتكامل وجود الإنسان.
ثم اللفتة الثانية.. إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب.
.. كبقية الأحكام التالية في السورة... كلها عبادة لله. وكلها دين الله. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيراً- في الفقه-على تسميته بأحكام العبادات، وما اصطلح على تسميته بأحكام المعاملات..
هذه التفرقة- التي اصطنعها الفقه حسب مقتضيات التصنيف والتبويب- لا وجود لها في أصل المنهج الرباني، ولا في أصل الشريعة الإسلامية.. إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء. وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع. لا، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر. والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء.
كلها عقود من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء، وكلها عبادات يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله. وكلها إسلام وإقرار من المسلم بعبوديته لله.
ليس هنالك عبادات وحدها ومعاملات وحدها.. إلا في التصنيف الفقهي.. وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي.. كلها عبادات وفرائض وعقود مع الله. والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله!
وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق.
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة...}..
إن الصلاة لقاء مع الله، ووقوف بين يديه- سبحانه- ودعاء مرفوع إليه، ونجوى وإسرار. فلابد لهذا الموقف من استعداد. لابد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي. ومن هنا كان الوضوء- فيما نحسب والعلم لله- وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية:
غسل الوجه. وغسل الأيدي إلى المرافق. ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين.. وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيرة.. أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به؟ أم هي تجزئ على غير ترتيب؟ قولان..
هذا في الحدث الأصغر.. أما الجنابة- سواء بالمباشرة أو الاحتلام- فتوجب الاغتسال..
ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء، والغسل، أخذ في بيان حكم التيمم. وذلك في الحالات الآتية:
حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق..
وحالة المريض المحدث حدثاً أصغر يقتضي الوضوء، أو حدثاً أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه..
وحالة المسافر المحدث حدثاً أصغر أو أكبر..
وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}.. والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه.. والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولاً أو تبرزاً.
وعبر عن الحدث الأكبر بقوله: {أو لامستم النساء}.
لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة..
ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث- حدثاً أصغر أو أكبر- الصلاة، حتى يتيمم.. فيقصد صعيداً طيباً.. أي شيئاً من جنس الأرض طاهراً يعبر عن الطهارة بالطيبة- ولو كان تراباً على ظهر الدابة، أو الحائط. فيضرب بكفيه، ثم ينفضهما، ثم يمسح بهما وجهه، ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين.. ضربة للوجة واليدين. أو ضربتين.. قولان..
وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى: {أو لامستم النساء}.. أهو مجرد الملامسة؟ أم هي المباشرة؟ وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة؟ خلاف..
كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم؟ أم المرض الذي يؤذيه الماء؟ خلاف..
ثم.. هل برودة الماء من غير مرض؛ وخوف المرض والأذى يجيز التيمم.. الأرجح نعم..
وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب:
{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}..
والتطهر حالة واجبة للقاء الله- كما أسلفنا- وهو يتم في الوضوء والغسل جسماً وروحاً. فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه؛ ويجزئ في التطهر عند عدم وجود الماء، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء. ذلك أن الله- سبحانه- لا يريد أن يعنت الناس، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف. إنما يريد أن يطهرهم، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها.. فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم.
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا:
{ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}..
تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء. فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد، ليقول متفلسفة هذه الأيام: إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات، كما كان العرب البدائيون! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه. وجانب التطهر الروحي أقوى. لأنه عند تعذر استخدام الماء يستعاض بالتيمم، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى.. وذلك كله فضلاً على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات، وجميع البيئات، وجميع الأطور، بنظام واحد ثابت، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور، بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال.